فصل: تفسير الآية رقم (139):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {صبغة الله} قال: دين الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {صبغة الله} قال: فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل يصبغ ربك؟ فقال: اتقوا الله فناداه ربه: يا موسى سألوك هل يصبغ ربك فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود، والألوان كلها في صبغتي، وأنزل الله على نبيه {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة}» وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس موقوفًا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءها يهود، وإن النصارى تصبغ أبناءها نصارى، وإن صبغة الله الإِسلام، ولا صبغة أحسن من صبغة الله الإِسلام ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحًا ومن كان بعده من الأنبياء.
وأخرج ابن النجار في تاريخ بغداد عن ابن عباس في قوله: {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة} قال: البياض. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}.
قرأ الجمهور {صبغة} بالنصب.
وقال الطبري رحمه الله: من قرأ: {ملّةُ إبراهيم} بالرفع قرأ {صبغة} بالرفع وقد تقدم أنها قراءة ابن هرمز، وابن أبي عبلة.
فأما قراءة الجمهور ففيها أربعة أوجه:
أحدها: أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد، وهذا اختاره الزمخشري، وقال: هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حَذَام انتهى قوله.
واختلف حينئذ عن ماذا انْتَصَبَ هذا المصدر؟
فقيل: عن قوله: {قولوا آمنا}.
وقيل عن قوله: {ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
وقيل عن قوله: {فَقَد اهْتَدُوا}.
الثاني: أن انتصابها على الإغراء أي: الزموا صبغة الله.
وقال أبو حيان وهذا ينافره آخر الآية، وهو قوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} فإنه خبر والأمر ينافي الخبر إلا أن يقدر هنا قول، وهو تقدير لا حاجة إليه، ولا دليل من الكلام عليه.
الثالث: أنها بدل من {ملة} وهذا ضعيف؛ إذ قد وقع الفصل بينهما يجمل كثيرة.
الرابع: انتصابها بإضمار فعل أي: اتبعوا صِبْغَةَ الله، ذكر ذلك أبو البقاء مع وجه الإغراء، وهو في الحقيقة ليس زائدًا فإنَّ الإغراء أيضًا هو نصب بإضمار فعل.
قال الزمخشري رحمه الله: هي أي الصبغة من صَبَغَ كالجِلْسَة من جَلَس، وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ، والمعنى: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النُّفُوس.

.فصل في الكلام على الصّبغ:

الصّبغ ما يلون به الثياب ويقال: صبغ الثوب يصبغُهُ بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغًا بفتح الصاد وكسرها.
والصِّبْغة فعلة من صبغ كالجِلْسَة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ.
ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال:
الأول: أنه دين الله، وذكروا في تسمية دين الله بالصبغة وجوهًا.
أحدها: أن بعض لنصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: هو تطهير لهم.
وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال: الآن صار نصرانيًا فأمر المسملون أن يقولوا: آمنا وصبغنا الله صِبْغة لا مثل صِبْغتكم، وإنما جيء بفلظ الصِّبغة على طريق المُشَاكلة كما توقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلًا يصطنع الكرم.
والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المُشَاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلًا مواظبًا على الكرم.
ونظيره قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 1415]، {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} [هود: 38].
وثانيها: اليهود تصبغ أولادها يهودًا، والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم، فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قُلُوبهم.
عن قتادة قال ابن الأنباري رحمه الله يقال: فلان يصبغ فلانًا في الشيء، أي: يدخله فيه، ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازمًا للثوب.
وأنشد ثعلب: الطويل:
دَعِ الشَّرَّ وانْزِلْ بالنَّجَاةِ تَحَرُّزًا ** إِذا أنْتَ لَمْ يَصْبَغْكَ بِالشّرْعِ صَابِغُ

وثالثها: سمي الدين صبغة؛ لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطَّهَارة والصلاة قال الله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29].
وقال مجاهد والحسن وأبو العالية وقتادجة رضي الله تعالى عنهمك أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم فيما يسمونه المعمودية، وصبغوه بذلك ليطهروه به، كأنه الخِتَان، لأن الختان تطهير، فلما فعلوا ذلك قالوا: الآن قد صار نصرانيًا حقًّا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} وهي الإسلام فسمى الإسلام صبغة استعارة ومجازًا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
قال بعض شعراء ملوك همدان: المتقارب:
وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغةٌ ** وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغْ

صَبَغْتنَا عَلَى ذَاكَ أَبْنَاءَنَا ** فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا في الصِّبَغْ

ورابعها: قال القاضي: قوله: {صِبْغَةَ اللهِ} متعلّق بقوله: {قولوا آمَنَّا بالله} [البقرة: 136] إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تَعَالى؛ ليبيّن أن المُبَاينة بين هذا الدين الذي اختاره الله، بين الدِّين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحسّ السليم.
القول الثاني: أن صبغة الله فطرته، وهو كقوله: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30].
ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبِنْيَتِهِ بالعَجْزِ والفَاقَة، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق، فهذه الآثار كالصبغة له وكالسِّمَة اللاَّزمة.
قال القاضي رحمه الله تعالى: من حمل قوله تعالى: {صبغة الله} على الفطرة فهو مقارب في المعنى لقول من يقول: هو دين الله؛ لأن الفطرة التي أمروا بها هو الدين الذي تقتضيه الأدلّة من عَقْل وشرع، وهو الدين أيضًا الذي ألزمكم الله تعالى التمسّك به، فالنفع به سيظهر دُنيا ودين، كالظهور حُسْن الصبغة، وإذا حمل الكلام على ما ذكرنا، لم يكن لقول من يقول إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى، وفي صبغ يستعملونه في أولادهم معنى؛ لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه، فلا فائدة فيه.
القول الثالث: أن صبغة الله هي الختان، الذي هو تطهير، أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تطهير لهم، فكذلك الختان تظهير للمسلمين قاله أبو العالية.
القول الرابع: قال الأصم رحمه الله تعالى: أنه حجة الله.
القول الخامس: قال أبو عبيدة رحمه الله تعالى: إنه سُنة الله.
وأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين:
أحدهما: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: ذلك الإيمان صبغة الله.
والثاني: أن تكون بدلًا من {ملَّة}؛ لأن من رفع {صبغة} رفع {ملة} كما تقدم فتكون بدلًا منها كما قيل بذلك في قراءة النصب.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: وقيل: الصِّبْغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلاَم، بدلًا من مَعْمُودية النصارى، ذكر ذلك الماوردي رحمه الله تعالى.
وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبًا، وبهذا المعنى جاءت السُّنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما.
وقيل: {وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأ وخبر، وهذا استفهام معناه النفي أي: لا أحد، و{أحسن} هنا فيها احتمالان:
أحدهما: أنها ليست للتفضيل؛ إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن.
والثاني: أن يراد التفضيل باعتبار من يظنّ أن في {صبغة} غير الله حسنًا لا أن ذلك بالنسبة على حقيقة الشيء.
و{من الله} متعلق بأحسن، فهو في محل نصب.
و{صبغة} نصب على التمييز من أحسن، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ والتقدير: ومن أحسن من صبغة الله، فالتفضيل إنما يجري بين الصّبغتين لا بين الصَّابغين.
وهذا غريب معنى، وغني عن القول كون التمييز منقولًا عن المبتدأ.
قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} جملة من مبتدأ خبر معطوف على قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ} فهي في محلّ نصب بالقول.
قال الزمخشري: وهذا العطف يرد قول من زعم أن {صبغة الله} بدل من {ملّة}، أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الهل لما فيه من فكّ النظم، وإخراج الكلام عن الْتِئَامِهِ واتساقه.
قال أبو حيان: وتقديره في الإغراء: علكيم صبغة ليس بجيد؛ لأن الإغراء إذا كان بالظروف والمجرورات لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدّرناه: بالزموا صبغة الله. انتهى.
كأنه لضعف العمل بالظّروف والمجرورات ضعف حذفها وإبقاء عملها. اهـ. باختصار.

.قال الألوسي:

{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار، وقوله تعالى: {صِبْغَةَ} تمييز منقول من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجهًا والتقدير ومن صبغته أحسن من صبغة الله تعالى كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو، والتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغة أحسن من صبغته تعالى على معنى أنه أحسن من كل صبغة وحيث كان مدار التفضيل على تعميم الحسن للحقيقي والفرضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم أن يكون في صبغة غيره تعالى حسن في الجملة، والجملة معترضة مقررة لما في صبغة الله تعالى من التبجح والابتهاج أو جارية مجرى التعليل للإغراء.
{وَنَحْنُ لَهُ عابدون} أي موحدون أو مطيعون متبعون ملة إبراهيم أو خاضعون مستكنون في اتباع تلك الملة، وتقديم الجار لإفادة اختصاص العبادة له تعالى، وتقديم المسند إليه لإفادة قصر ذلك الاختصاص عليهم، وعدم تجاوزه إلى أهل الكتاب فيكون تعريضًا لهم بالشرك أو عدم الانقياد له تعالى باتباع ملة إبراهيم، والجملة عطف على {آمنا} [البقرة: 631] وذلك يقتضي دخولة صبغة الله في مفعول {قُولُواْ} [البقرة: 631] لئلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي، وإيثار الجملة الاسمية للاشعار بالدوام، ولمن نصب {صِبْغَةَ} على الإغراء أو البدل أن يضمر قولوا قبل هذه الجملة معطوفًا على الزموا على تقدير الإغراء، وإضمار القول سائغ شائع، والقرينة السياق لأن ما قبله مقول المؤمنين. اهـ.

.تفسير الآية رقم (139):

قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أمر تعالى بقوله: {قل بل ملة إبراهيم} [البقرة: 135] وما بعده بإعلام الخصم بالمخالفة وأن لا موافقة إلا بترك الهوى واتباع الهدى أمر بمجادلتهم بما يوهي أقوالهم ويزيح شبههم فقال معرضًا بالخطاب عن الجمع موجهًا له إلى رسوله صلى الله عليه وسلم رفعًا لمقامه وتعريفًا بعلي منصبه إعلامًا بأنه لا ينهض بذلك غيره لما لهم من العلم مع ما عندهم من الجدل واللدد: {قل} منكرًا لمحاجتهم وموبخًا لهم عليها {أتحاجوننا} ولما كان الأنسب في المقارعة إعلام الخصم بالمخالفة لأنه أقطع لطمعه وأمكن لغيظه مع أنه هنا أقرب إلى رضى الخالق قدم على المجادلة، ومعنى قوله: {في الله} في اختصاصكم بالملك الذي لا ملك سواه، لأن له الكمال كله المشار إلى إبطاله فيما سبق بقوله: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة} [البقرة: 94] أي أتحاجوننا في ذلك ولا وجه لاختصاصكم به {وهو} أي والحال أنه {ربنا وربكم} نحن وأنتم في العبودية له سواء {ولنا أعمالنا} نختص به دونكم {ولكم أعمالكم} تختصون بها دوننا، لا نخاف منه أن يخصكم بأعمالنا ولا بشيء منها لتختصوا بها عنده ولا أن يخصنا بأعمالكم ولا بشيء منها لنبعد بها عنه ظلمًا ولا غلطًا، لأنه السميع العليم الغني الحميد {ونحن} أحسن أعمالًا منكم لأنا دونكم {له} وحده {مخلصون} لا نشرك به شيئًا وأنتم تشركون به عزيرًا والمسيح والأحبار والرهبان، وأنتم تعلمون ذلك في باطن الأمر وإن أظهرتم خلافه، فلزم قطعًا أنا أخص به منكم؛ والإخلاص عزل النفس جملة، فلا يبلغ عبد حقيقته حتى لا يحب أن يحمد على عمل. اهـ.